تزامن ظهور الشيعة والخوارج وبيان منشأ ضلال كل منهما
ولا اعتراض على من يقول: إن الشيعة هي الأولى؛ لأن الشيعة والخوارج خرجتا في وقت واحد تقريباً، لكن الشيعة لم تتحيز ولم تتميز عن المسلمين، وإنما كانوا بينهم مندسين ويقولون: نحن من أتباع علي ، ويخفون أقوالهم، حتى اضطر علي رضي الله عنه إلى أن يقف على منبر الكوفة ويقول مراراً وتكراراً: [إن أفضل الأمة بعد رسولها هما أبو بكر و عمر ، ولا أوتين برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد الفرية]، وكان يحذر الناس من الغلو فيه مراراً؛ لأنه يعلم أن هذا الفكر المبني على الاعتقاد الباطل مدسوس في الأمة، ولكن لم يتحيز ولم يتميز، أما الخوارج فإن أول أمرهم كان كذلك فكراً، ولكنه تحيز وتميز، فكانوا يتصايحون في جنبات المسجد: لا حكم إلا لله، ثم تميزوا في حروراء، ومن هنا سموا الحرورية ، وأمروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي ، فأصبحوا جزءاً مستقلاً عن جسم الأمة، والسبب هو الغلو في قضية الإيمان، فهم يرون أن مرتكب الكبيرة كافر، ولم يكونوا في ذلك الوقت يقولون هذا النص، ولكن هذا هو السبب، فمن هنا كان الخلاف في الإيمان هو أول خلاف وقع في الأمة وظهر نتيجة الفتنة التي كان لها آثار خطيرة في هذه الأمة، وهذا ما قضاه الله وقدره عليها، فإنه صلى الله عليه وسلم صلى -وأصحابه يرونه- صلاة رغبة ورهبة وتضرع إلى الله بأنواع من الضراعات، فرأى الصحابة الكرام ولحظوا ما لم يكونوا يلحظونه في صلاته من قبل، فقالوا: ( يا رسول الله! رأيناك صليت صلاة رغبة ورهبة، فقال: إنه قد أنزل عليَّ: (( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ))[الأنعام:65] ). فصلى صلوات الله وسلامه عليه هذه الصلاة وتضرع إلى الله أن يدفع عن الأمة هذه العقوبات، فلما تضرع إليه استجاب الله له في الأولى ثم استجاب له في الأخرى، قال: ( فأعطاني اثنتين ومنعني الثالثة )، فالذي لم يعطه النبي صلى الله عليه وسلم هو إيقاع الفرقة، كما جاء في الحديث الآخر: ( إن هذه الأمة أمة مرحومة فتنتها المال وعذابها الفرقة )، فالله من عليها أن لا يعذبها بسنة بعامة وبعذاب يستأصل شأفتها يرسله عليها من فوقها كما أهلك من قبلها عاداً وثمود وقوم لوط، أو من تحت أرجلها كما خسف بـقارون وغيره، فأكرم الله هذه الأمة بأن منع ذلك عنها، ولكن الفرقة عذابها حتى يقتل بعضهم بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً كما في حديث ثوبان ، فلما وقعت الفرقة ووقع الاختلاف كان أول ما اختلفوا فيه هو هذه المسألة. وفي أول ما دار القتال لم يكن إلا بين طائفتين من أهل السنة والجماعة : بين أهل العراق الذين مع علي، وأهل الشام الذين مع معاوية ، وكان كل منهم مجتهداً، وقبل ذلك كانت معركة الجمل، ولكنها لم تكن بنفس الوضوح الذي كان في يوم صفين ، فقد كان كل من الفريقين في يوم صفين مترصداً للقتال، ويرى أنه بقتاله يحق الحق ويبطل الباطل، ونشأ منذ يوم صفين خلاف الخوارج ، فتحيزوا وخرجوا، وقالوا: لا حكم إلا لله. ومن هنا يجب التنبه إلى خطر وضرر الفتنة بين المسلمين، وأنه في أول الأمر يبدأ هوى ثم ينتهي بأصحابه ليصبح عقيدة ومنهجاً، وهذا ما نقل عن ذر بن عبد الله الهمداني الذي نسب إليه أنه أول من تكلم في الإرجاء كما ذكر ذلك الإمام أحمد في كتاب الإيمان وغيره، قال: كان رأياً رآه، ثم أخذ يكتب به إلى الأمصار. وجاء في بعض الروايات عند ابن بطة أنه قال: والله إنه للدين الذي بعث الله به نوحاً والنبيين من بعده! فانتقل من رأي إلى هذا الاعتقاد.